فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأُمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء.
وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل.
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا {قد جئناك بآية من ربك} وتكرر أيضًا قولهما {من ربك} على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما.
وقال الزمخشري: {قد جئناك بآية من ربك} جارية من الجملة الأولى وهي {إنّا رسولا ربك} مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك {قد جئتكم ببينة من ربكم} {فأت بآية إن كنت من الصادقين} {أو لو جئتك بشيء مبين} انتهى.
وقيل: الآية اليد.
وقيل: العصا، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك.
والظاهر أن قوله: {والسلام على من اتبع الهدى} فصل للكلام، فالسلام بمعنى التحية رغبًا به عنه وجريًا على العادة في التسليم عند الفراغ من القول، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له.
وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم.
وقيل: هو مدرج متصل بقوله: {إنا قد أوحي إلينا} فيكون إذ ذاك خبرًا بسلامة المهتدين من العذاب.
وقيل {على} بمعنى اللام أي والسلامة لمن {اتبع الهدى}.
وقال الزمخشري: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين، وتوبيخ خزَنة النار والعذاب على المكذبين انتهى.
وهو تفسير غريب.
وقد يقال: السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} وبنى {أُوحِي} لما لم يسم فاعله، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان.
وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب.
وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} أي وليذهبْ أخوك حسبما استدعيتَ، استئنافٌ مَسوق لبيان ما هو المقصودُ بالاصطناع {بآياتي} أي بمعجزاتي التي أرَيتُكَها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آياتٌ شتى كما في قوله تعالى: {فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم} فإن انقلاب العصا حيوانًا آيةٌ، وكونَها ثعبانًا عظيمًا لا يقادَر قدرُه آيةٌ آخرى، وسرعةَ حركتِه مع عِظم جِرْمه آيةٌ أخرى، وكونَه مع ذلك مسخرًا له عليه السلام بحيث كان يُدخل يده في فمه فلا يضره آيةٌ أخرى، ثم انقلابُها عصًا آيةٌ أخرى، وكذلك اليدُ فإن بياضها في نفسه آيةٌ وشعاعَها آيةٌ، ثم رجوعُها إلى حالتها الأولى آيةٌ أخرى. والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابُهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسّكين بها في إجراء أحكامِ الرسالة وإكمالِ أمر الدعوة لا مجردُ إذهابِها وإيصالها إليه {وَلاَ تَنِيَا} لا تفتُرا ولا تقصّرا، وقرئ لا تِنيا بكسر التاء للاتباع {فِى ذِكْرِى} أي بما يليق بي من الصفات الجليلةِ والأفعال الجميلة عند تبليغِ رسالتي والدعاءِ إليّ، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكرَ يقع على جميع العبادات وهو أجلُّها وأعظمُها، وقيل: لا تنسَياني حيثما تقلبتما واستمِدّا بذكري العونَ والتأييدَ واعلما أن أمرًا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنّى إلا بذكري.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ} جمعهما في صيغة أمر الحاضرِ مع غَيبة هارون إذ ذاك للتغليب، وكذا الحالُ في صيغة النهي. روي أنه أوحي إلى هارونَ وهو بمصر أن يتلقّى موسى عليهما السلام، وقيل: سمِع بإقباله فتلقاه {إِنَّهُ طغى} تعليلٌ لموجب الأمر.
والفاء في قوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا} لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليينَ القولِ مما يكسِر سَوْرةَ عنادِ العُتاة ويُلين عريكةَ الطغاة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تُعنّفا في قولكما، وقيل: القولُ اللين مثل: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} فإنها دعوةٌ في صورة عَرْض ومَشورة، ويرده ما سيجيء من قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} الآيتين، وقيل: كنِّياه وكان له ثلاثُ كُنًى: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مُرّة، وقيل: عِداه شبابًا لا يهرَم ويبقى له لذةُ المطعم والمشرب والمنكِح ومُلكًا لا يزول إلا بالموت، وقرئ لَيْنا {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} بما بلغتُماه من ذكري ويرغب فيما رغّبتماه فيه {أَوْ يخشى} عقابي، ومحلُّ الجملة النصبُ على الحال من ضمير التثنية، أي فقولا له قولًا لينًا راجين أن يتذكر أو يخشى، وكلمةُ أو لمنع الخلوّ أي باشِرا الأمرَ مباشرةَ مَنْ يرجو ويطمع في أن يُثمر عملُه ولا يخيبَ سعيُه وهو يجتهد بطَوْقه ويحتشد بأقصى وُسْعه. وجدوى إرسالِهما إليه مع العلم بحاله إلزامُ الحجة وقطعُ المعذرة.
{قَالاَ رَبَّنَا} أُسند القولُ إليهما مع أن القائلَ حقيقةً هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليبِ إيذانًا بأصالته في كل قولٍ وفعلٍ وتبعيّةِ هارونَ عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر، ويجوز أن يكون هارونُ قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحَكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزولِ الآية كما في قوله تعالى: {وَمَعِينٍ يا أَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} فإن هذا الخطابَ قد حُكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلًا من المخاطَبين لم يخاطَب إلا بطريق الانفرادِ ضرورةَ استحالةِ اجتماعِهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي يعجَلَ علينا بالعقوبة ولا يصبِرَ إلى إتمام الدعوةِ وإظهارِ المعجزة من فرَط إذا تقدّم ومنه الفارِطُ وفرسٌ فارِطٌ يسبِق الخيلَ، وقرئ يُفرِطَ من أفرطه إذا حمله على العجلة، أي نخاف أن يحمِله حاملٌ من الاستكبار أو الخوف على المُلك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب {أَوْ أَن يطغى} أي يزداد طغيانًا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءتِه وقساوته، وإطلاقُه من حسن الأدب، وإظهارُ كلمة أن مع سَداد المعنى بدونه لإظهار كمالِ الاعتناء بالأمرِ والإشعارِ بتحقق الخوفِ من كل منهما.
{قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال الناشىءِ من النظم الكريم، ولعل الفعلَ إسنادٌ إلى ضمير الغَيبة للإشعار بانتقال الكلامِ من مَساق إلى مساقٍ آخرَ، فإن ما قبله من الأفعال الواردةِ على صيغة التكلم حكايةٌ لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى} فإن ما قبله أيضًا واردٌ بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: فماذا قال لهما ربُّهما عند تضرُّعِهما إليه؟ فقيل: قال: {لاَ تَخَافَا} ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَا} تعليلٌ لموجب النهي ومزيدُ تسليةٍ لهما، والمرادُ بالمعية كمالُ الحفظ والنُّصرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَسْمَعُ وأرى} أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعلٍ فأفعلُ في كل حال ما يليق بها من دفع ضُرّ وشر وجلب نفعٍ وخير. ويجوز أن لا يُقدَّر شيءٌ، على معنى أنني حافظُكما سميعًا بصيرًا والحافظ الناصرُ إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النُّصرةُ غايتها {فَأْتِيَاهُ} أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار، وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليلِه بما بعده {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} أُمرا بذلك تحقيقًا للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه، وكذا التعرّضُ لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما، والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ، ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عامًا دون عام ويستخدمون نساءَهم، وتوسيطُ حكمِ الإرسال بين بيان رسالتِهما وبين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون، فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة، ولأن في بيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى، فتأخيرُ ذلك عنه مُخِلٌّ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم، وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلاّ.
{قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ، فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتَهما ويُقِرّها ويوجب الامتثالَ بأمرهما، وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل، وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ} وقوله تعالى: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} وأما قوله تعالى: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ} فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات {والسلام} المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين {على مَنِ اتبع الهدى} بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق، وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفى.
{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا} من جهة ربنا {أَنَّ العذاب} الدنيويَّ والأخروي {على مَن كَذَّبَ} أي بآياته تعالى {وتولى} أي أعرض عن قَبولها، وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرَّحْ بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي}.
استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع، {وَأَخُوكَ} فاعل بفعل مضمر أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت، وقيل: معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز، ورب شيء يصح تبعًا ولا يصح استقلالًا.
والآيات المعجزات، والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة، وعن ابن عباس الآيات التسع، وقيل: الأولان فقط وإطلاق الجمع على الاثنين شائع؛ ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه السلام: فأت بآية ألقى العصا ونزع اليد، وقال: {فَذَانِكَ برهانان} وقال بعضهم: إنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى: {آيات بينات مَّقَامُ إبراهيم} [آل عمران: 97] فإن انقلاب العصا حيوانًا آية وكونها ثعبانًا عظيمًا لا يقادر قدره آية أخرى وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى وكونه مع ذلك مسخرًا له عليه السلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى.
وقيل: المراد بها ما أعطى عليه السلام من معجزة ووحي، والذي يميل إليه القلب أنها العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بإلقاء العصا وأخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} [طه: 22] آية أخرى ثم قال سبحانه: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية، ثم إن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك وأكثر التسع لم يتحقق بعد.
{وَلاَ تَنِيَا} من الونى بمعنى الفتور وهو فعل لازم وإذا عدى عدي بفي وبعن، وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من أخوات زال وبمعناهما واختاره ابن مالك، وفي الصحاح فلان لا يني يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكذا هذا المعنى مأخوذ من نفي الفتور، وقرأ ابن وثاب {وَلاَ تَنِيَا} بكسر التاء اتباعًا لحركة النون.
وفي مصحف عبد الله {لا} وحاصله أيضًا لا تفترا {فِى ذِكْرِى} بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى عبادتي، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع مجازًا على جميع العبادات وهو من أجلها وأعظمها.
وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتأييد واعلما أن أمرًا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري.
وجمع هارون مع موسى عليه السلام في صيغة نهي الحاضر بناءً على القول بغيبته إذ ذاك للتغليب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى، وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناءً على ذلك أيضًا في قوله تعالى: {اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.
وروي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السلام، وقيل: ألهم ذلك، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه، ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معًا، ويحتمل أن هذا الأمر بعد إقبال موسى عليه السلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهارون عليه السلام مقبلًا إليه من مصر، وفرق بعضهم بين هذا، وقوله تعالى: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] بأنه لم يبين هناك من يذهب إليه وبين هنا، وبعض آخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة، وبعض آخر بأنه لم يخاطب هارون هناك وخوطب هنا، وبعض آخر بأن الأمر هناك بذهاب كل منهما على الانفراد نصًا أو احتمالًا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصًا، ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر، والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى أولًا خطابًا لموسى عليه السلام {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا}.
قرأ أبو معاذ {لَّيّنًا} بالتخفيف، والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة الطغاة، ويعلم من ذلك أن الأمر بإلانة القول ليس لحق التربية كما قيل، والمعنى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تعنفاه في قولكما وارفقا به في الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا وهو {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} [طه: 47].. إلخ. ومنها ما في النازعات وهو {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى} [النازعات: 18، 19] وهذا ظاهر غاية الظهور في الرفق في الدعاء فإنه في صورة العرض والمشورة، وقيل: كنياه، واستدل به على جواز تكنية الكافر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا وسفيان الثوري، وله كنى أربع أبو الوليد وأبو مصعب وأبو العباس وأبو مرة، وقيل: عداه شبابًا لا يهرم بعده وملكًا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وعن الحسن قولًا له: إن لك ربًا وإن لك معادًا وإن بين يديك جنة ونارًا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار، وقيل: أمرهما سبحانه بأنه يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل:
أقدم بالوعد قبل الوعيد ** لينهى القبائل جهالها